الأربعاء، 29 ديسمبر 2010

قصة الجعران

أسود عريضالجعران

جلست وحيدا فى صالة فندق ليننجراد الواسعة .. ولم أكن أنتظر أحدا .. ولا كان لى صديق أو رفيق فى المدينة .. وكنت قد كتبت رسالة لابنتى .. فلما ذهبت إلى جناح البريد فى الفندق لأشترى الطابع .. وجدته قد أغلق .. فوضعت الرسالة بجانبى على الكنبة الجلدية .. وأخذت أتطلع من مكانى إلى حركة الداخلين والخارجين من الباب الكبير ..

وكان الثلج يتساقط بغزارة فى الخارج وحركة النزلاء قد خفت فى أرجاء بهو الاستقبال .. فلم تكن هذه الساعة من الليل .. ساعة سفر لقطارات أو طائرات إلى أى مكان ..

وأخذت عيناى تنفذان من الجدران الزجاجية إلى الأنوار القوية التى تكون دائرة براقة الاشعاع على مدى ثلاثة فراسخ ..

كانت الساحة خارج الفندق مغمورة بالنور .. وكان القمر فى المكان الذى كنت أرى فيه الشمس فى النهار .. فتعلق بصرى به واستغرقت فى التفكير .. ولم أكن قد رأيت قمرا فى ليل روسيا من قبل .. ذلك لأننى لم أكن أتطلع إلى السماء أو لأننى كنت مشغولا بكل جوارحى بما يجرى على الأرض .. فلم أنظر إلى أعلى أبدا ..

لذلك ولاستغراقى فى المنظر الخارجى لم أحس بها وهى تجلس بجانبى على نفس الكنبة ..

وكانت تقرأ فى كتاب تبينت من حروفه أنه ليس باللغة الروسية .. ولم أكن متيقنا أهو بالإنجليزية أم بالفرنسية .. ولكنه لايخرج عنهما بحال ..

ولم اشأ أن أقترب منها بنظرى أو بجسمى حتى لا أسبب ازعاجها ..

وثبت بصرى عليها لحظات فوجدتها مستغرقة فى المطالعة إلى كل درجات الشعور الحسى ..

فلم تكن تشعر بوجودى اطلاقا .. ولعلها جلست على الكنبة وهى لاترى أنى جالس هناك فى الركن الأيمن ..

وهى حالة نفسية تعترى الكثير من الناس فى الفنادق .. خصوصا إذا كانوا مشغولين بأشياء كثيرة فى وقت واحد .. فالعين فى هذه الحالة ترى ولا ترى ..

كانت ترتدى جونلة وبلوزة من الصوف الغامق من لونين مختلفين .. ولكن فى انسجام .. وكانت الجونلة قصيرة .. كزى كل الفتيات الأوربيات فى سن الثامنة عشرة .. فبدت بجانبى نصف عارية بفخذيها الممتلئتين وفى بياض اللبن الخالص ونعومة الديباج ..

كانت ملتهبة الوجنتين محلولة الشعر .. والشعر أسود .. والعينان واسعتان جميلتان فى بريق أخاذ ولون سنجابى مشع ..

وكانت شفتاها الرقيقتان ترسمان حلم فتاة تنعم بالحياة البهيجة .. والسعة فى الرزق ..

وأخذت ترفع بصرها عن الكتاب .. فقلت بالإنجليزية وأنا أمد يدى بالمظروف الذى بجانبى :

ـ أتعرفين الفرنسية ..؟

كان صوتى وحركتى فيهما وقع المفاجأة وعدم التهذيب .. ولكن لم أجد منها النفور الذى أقدره لمثل هذه الحالة ..

فردت بنعومة .. وهى تدير رأسها .. فى حركة خفيفة .. والكتاب لا يزال بين أناملها :

ـ أجل ..

ـ أرجو أن تكتبى لى باللغة الفرنسية .. ما هو مدون بالإنجليزية .. على هذا المظروف ليسهل وصوله ..

فتناولت المظروف .. وأخرجت من حقيبتها قلما .. وأخذت تكتب فى تأن وبخط جميل ..

" الجزائر .. وهران .. شارع لامرتين رقم .... " وناولتنى المظروف وهى تتفحصنى بعينيها الواسعتين ..

وشكرتها .. وعادت إلى الكتاب .. وعدت أرقب الحركة فى بهو الفندق .. ومن حين إلى حين أميل بعينى إلى الكتاب فأجدها مستغرقة فى المطالعة .. ثم طوت الكتاب فجأة وانتصبت .. ودارت نصف دورة أمامى .. ثم مضت خلفى فى الطرقة الطويلة المفضية إلى مكاتب الموظفات فى الفندق .. ودخلت غرفة منها ..

ولم يكن فى الأمر شىء جديد بالنسبة لى .. كنزيل فى الفنادق .. فالحركة عادية ومألوفة ..

وكانت الساعة أمامى تشير إلى التاسعة والنصف .. وكنت بين أن أصعد إلى غرفتى لأطالع قبل النوم .. أو انتظر ساعة .. ثم أهبط لأستمع إلى الموسيقى .. وأشاهد الرقص فى " المرقص " ..

ورأيت أن انتظر .. وكانت الحركة فى صالة الفندق قد خفت تماما .. فنهضت إلى دورة المياه وكانت فى الخلف وفى الطرقة التى مشت فيها الفتاة ..

ولمحت وأنا راجع الفتاة جالسة فى مدخل الغرفة التى شاهدتها تلجها من قبل .. وكان باب الغرفة مواربا فاستطعت أن أرى الفتاة وهى تمسح عبراتها بمنديل .. ونكست رأسها فلم تحس بوجودى .. ووقفت لحظات أتأملها فى عجب .. وشجعنى على ذلك خلو المكان .. ثم خشيت أن تتنبه لوقفتى فتحركت وعدت إلى مقعدى فى الصالة ..

وأخذت أسائل نفسى .. هل كنت السبب فى بكائها ..؟

أننى لم أفعل شيئا إذا .. وبعد تفكير طويل برأت نفسى .. ولكنى شغلت بأمر هذه الفتاة الليل بطوله ..

وفى الليلة التالية شاهدتها فى " الباليه " فى نفس الصف الذى حجزت فيه مقعدى رأيتها مع سيدة شابة ورجل فى مثل سنى قدرت أنهما والداها ..

وكانت الفرقة تعرض " بحيرة البجع " ..

وفى الاستراحة بصرت بها فى الطابق الثانى منزوية فى ركن وحدها .. وكانت تخلع حذاءها الطويل العنق الذى يصل إلى الركبة .. كما يفعل غيرها من الفتيات الروسيات .. ورمقتنى بعين ناعسة وخجلى وهى تنزع الجلد الأسمر عن أجمل ساقين لأنثى فى الوجود ..

ولما ذهبت بين الفصول إلى الصالة الطويلة وأخذت أسير فى طابور الجمهور على السجاد الذى يطوق الصالة .. ويكون مثلثا مختلف الأضلاع .. شاهدتها فى الطابور مثلى وراء والديها تلف وتدور على السجاد .. وتفعل هذه الرياضة بشوق وطرافة ..

ولما انتهى العرض .. وجدت الثلاثة فى غرفة خلع المعاطف .. ولم أرهم بعد ذلك فى هذه الليلة ..

***

وفى الليلة التالية وكنت أجلس على ذات الكنبة فى بهو الفندق .. الفيتها قد جاءت وبيدها تحمل الكتاب عينه بجلدته الخضراء القرمزية .. وجلست تقرأ كعادتها .. ولم تحينى ولم أبادلها كلمة ..

وكنت قد بدأت أشعر بثقل الوحدة وشدة وطأتها على نفسى فى هذا المكان .. فلم تعد المطالعة ولا الأوبرا ولا الأرميتاج ولا الجامعة .. تخفف من ثقلها على نفسى ..

وفى هذا الفندق .. يحدث أمامى شىء فى ساعة معينة من الليل لايتقدم ولا يتأخر عنها لحظة .. فبعد الساعة التاسعة بدقيقة واحدة .. يأخذ الشغالات فى غسل بلاط هذا الطابق الأرضى ورخامه على صورة فريدة ..

وكانت الشغالة فى القسم الذى أجلس فيه تعرفنى من طول ما تشاهدنى فى ذات المكان .. فعندما تشرع فى العمل وتقترب من أدواتها منى .. كانت تقول بالروسية وباشارة تجعلنى أفهم كلامها :

ـ أبق مكانك مستريحا .. ولا تتحرك .. وتمسح وتطوق ما تحت قدمى وكل ما حولى ..

وخطر فى بالى لما لمسته فى هذه العجوز من طيبة وحنان .. أن أسليها بلعبة .. فأخرجت من جيبى حجرا صغيرا على هيئة " جعران " كان قد أهداه لى صديق زار المكسيك وحمله من هناك كأجمل تذكار ..

وكنت أعرف خصائص هذا الحجر النادر على الرخام .. فأخرجته من جيبى ووضعته على الرخام الذى تحت قدمى .. فى اللحظة التى كانت فيها المرأة العجوز تمسح يديها فى مريلتها .. ورأت الحجر يسير وينط فى وثبات مرسومة .. كأنه يتحرك بلولب .. ففتحت عينيها فى ذعر وجلست القرفصاء على الرخام لتشاهد المنظر العجيب عن قرب ..

ولاحظت الفتاة بجانبى ما يفعله " الجعران " فأخذت تضحك مندهشة حتى التهبت وجنتاها .. ثم تحولت إلىّ وجعلت تتفحصنى بعينيها وطال تحديقها .. فى الجعران .. وفى شخصى .. وخشيت أن يتجمع حولنا بعض النزلاء ويحسبوننى " حاويا " فقلت بالإنجليزية وأنا ابتسم :

ـ هذا يكفى .. الليلة ..

ووضعت الجعران فى جيبى ..

ومضت المرأة العجوز إلى عملها آسفة .. أما الفتاة فانها ظلت تحدق فى وجهى بنظرات قوية ثابتة فى جرأة غريبة .. وسمعتها تقول :

ـ من أين جئت بهذا الجعران ..؟

ـ من مصر .. إنه من آثار الفراعنة ..

وأخرجته من جيبى ..

ـ أتسمح بأن المسه ..؟

ووضعته فى يدها .. وأخذت تتأمله .. كان أسود كالأبنوس المطفى .. وله عينان نفاذتان ..

ووضعته الفتاة على الرخام فعاد يمشى .. فتناولته سريعا فى ذعر .. وعادت تتأمله بعينين تبرقان ..

ومدت يدها تعيده إلىّ ..

فقلت لها :

ـ خذيه ..

ـ آخذه أنا ..!

ـ أجل ..

ـ وتعطيه لى حقا ..؟

ـ أجل .. عندى غيره ..

ـ إذن .. سأضعه هنا على صدرى ..

ووضعته على صدرها لحظات فوق الثدى الأيسر ..

ثم قالت وهى تنظر إلى الجعران :

ـ سآتى بمشبك أو سلسلة .. والأحسن السلسلة وألصقه هنا ..

ولم أفهم الغرض من هذه الحركة على الصدر ..

وظللنا نتحدث حتى أصبحنا وحيدين فى الصالة الكبيرة .. ثم ركبنا المصعد معا إلى فوق ..

وضغطت على الزر الذى يشير إلى الطابق الرابع عشر .. ثم استدركت .. وسألتنى بالإنجليزية .. بعد أن رفعت اصبعها :

ـ وأنت ..؟

ـ فى السابع .. بيننا سبعة طوابق ..

فتبسمت .. وعادت فضغطت على السابع ثم الرابع عشر ..

***

وفى الطابق السابع تركتها .. وسرت فى الطرقة الطويلة المفروشة بالسجاد وفى نفسى مشاعر لا أستطيع فهمها .. ولا تحديدها فى جو هذا الفندق .. الساكن على كثرة ما فيه من النزلاء .. فعندما تسير فى الطرقة لا تسمع صوتا ولا همسا .. وعندما تدير المفتاح فى غرفتك وتدخل وترد الباب .. تحس كأنك انفصلت عن العالم بأسره ..

أضأت المصابيح التى فى الغرفة جميعا .. حتى مصباح المكتب .. وفتحت الراديو .. وسمعت أغانى خفيفة وموسيقى هادئة تجلبان النعاس .. ولكنى لم أنم ..

ونظرت إلى المنضدة الصغيرة التى كنت أضع عليها " الجعران " وأتسلى بحركته فى كل ليلة قبل أن أنام .. ولكنى لن أفعل هذا الليلة .. ولا فى غيرها من الليالى .. فقد أعطيته للفتاة التى لا أعرف جنسيتها ولا اسمها .. أعطيته عن رضا بعد أن رأيت عينيها تتعلقان به وتتلهفان عليه ..

أطفأت المصابيح فى الغرفة .. وجلست على الكرسى الطويل المواجه لباب الشرفة الزجاجى ..

وكان جسر من جسور المدينة يتلألأ بمصابيحه الزاهية ..

وفى اليوم التالى لم أر الفتاة فى الصباح .. ولا فى المساء ..

وحدث مثل هذا فى اليوم الذى يليه ..

وكنت معتادا أن أتناول الافطار فى المقصف الذى فى الطابق الخامس .. لأن العاملة هناك تجيد الإنجليزية وتغنى عن التفاهم بالإشارة التى كثيرا ما كانت تؤدى إلى مواقف مضحكة ..

وحدث أثناء جولاتى فى الفندق أن شاهدت بعض النزلاء يتناولون الافطار فى المطعم الكبير بالطابق الأول .. فقلت لنفسى لماذا لا أجربه صباح يوم وأفطر مستريحا وأنا جالس إلى مائدة بدلا من الوقوف فى المقصف ..

وذهبت إلى المطعم فعلا .. وجلست وحيدا إلى مائدة خالية .. وكانت كل الموائد التى حولى خالية أيضا .. فتعجبت .. ولكن زال عجبى عندما جاءت العاملة .. وعلى فمها ابتسامة .. وكانت تعرف الإنجليزية وقالت بلطف :

ـ إن هذا المكان مخصص للمجموعات ..

ـ وأين يفطر مثلى ..!

ـ فى الطابق الذى تحته مباشرة ..

وهبطت السلالم .. فوجدت قاعة فسيحة .. قد صفت موائدها .. وكانت مزدحمة بالنزلاء إلى أقصاها .. فوقفت فى أول درج .. وقد جعلنى الزحام أغير رأيى .. ولكن كان لابد أن أمر بين الموائد لأخرج .. وهنا رأيت الفتاة تتناول الافطار مع والديها .. ولمحتنى وابتسمت .. وحدق أبواها فى وجهى فأدركت أنها حدثتهما عنى وعن " الجعران " ..

وقالت كلاما لم أسمعه فقد خرجت سريعا من صالة الطعام ..

***

وفى مساء اليوم نفسه .. وبعد الساعة التاسعة .. كانت تجلس بجانبى فى صالة الفندق على ذات الكنبة ..

وكانت ترتدى فستانا أزرق من قطعة واحدة .. وأطلقت شعرها يغطى جبينها .. وقالت وهى تستدير إلىّ وبيدها الكتاب :

ـ أنظر .. لقد علقته على صدرى ..

ـ جميل .. وعلى صدر جميلة ..

ـ ماما .. أجمل .. هل رأيتها ..؟

وعجبت لفتاة تتغزل فى أمها .. وقلت لها وأنا أكاد أضحك :

ـ أجل .. رأيتها معك فى صالة الطعام ..

ـ ماما تشكرك على " الجعران " .. وسيدعوك والدى إلى العشاء بعد أن تفرغ من الفحص ..

ولم أكن فضوليا ولذلك لم أسألها عن شىء لم تفصح عنه .. ولم تزعجنى كلمة " الفحص " لولا ما رأيته من الدموع المترقرقة فى عينيها وهى تنطق بالكلمة ..

وقالت وهى مستطردة بعد أن رأت صمتى وحبست دموعها ..

ـ ماما طبيبة ..

وكنت أود أن أسألها عن مهنة الوالد فلا بد أن يكون طبيبا حتى يتزوج طبيبة كالحال عندنا .. ولكن وجه الرجل السمين وعينيه الوادعتين .. كانا يوحيان بالطيبة المطلقة .. وليست هذه صفة الأطباء فى معظم بلاد العالم ..

وهذا الرجل الطيب قد أهداه الله بأجمل امرأة .. وكنت لا أراهما إلا معا .. فلم تفترق عنه قط .. وإذا خرجا من باب الفندق وقفت على الباب تساعده على لبس معطفه .. ولف الكوفية حول عنقه .. ووضع القبعة على رأسه .. قبل أن يخرج إلى الزمهرير القاتل ..

وتكون هى فى أبهى معاطف الفراء الفاخرة كأجمل من يخطو على الأرض ..

أما الفتاة فكان يتركانها تتحرك وحدها .. للحالة النفسية التى هى فيها .. ولكن فى دائرة الفندق ..

ورغم الدموع التى كانت تروح وتجىء فى مقلتيها لسبب غير واضح لى .. فانها فى ساعات كثيرة كانت تبدو مشرقة وضاحكة وقد وضعت الغمامة النفسية وراء مسالك تفكيرها ..

وأصبحت هى بعد عشرة أيام كاملة من نزولى فى الفندق تعرف أين أذهب فى الصباح .. وأين أتناول الغداء فى الظهر .. وأين أكون فى المساء ..

ووجدتنى فى العصر فى مكتب البريد الملحق بالفندق أكتب رسالة .. فجلست بجوارى صامتة إلى أن فرغت من الكتابة .. وسألتنى :

ـ لمن الرسالة ..؟

ـ لابنتى .. انها تدرس فى الخارج ..

ـ وتطيق البعد عنها ..؟

ـ أبدا .. ولكنى خضعت لحكم الأيام ..

ـ كم عمرها ..؟

ـ فى مثل سنك ..

ـ هل معك صورة لها ..؟

ـ أجل ..

وأخرجت لها الصورة .. فتأملتها طويلا .. وقالت كلاما كثيرا .. واستمعت إليها صامتا .. فقد حركت الشوق الدفين فى أعماقى ..

كان ثقل الوحدة يطمس كل ما لقيته فى رحلتى من جمال وبهجة .. والشوق إلى ابنتى التى تدرس فى الخارج يعصف بكيانى كله ..

ولقد كانت هذه الرحلة بسببها ومن أجلها .. ولكن كل ما ألقاه من بهجة فى المدن وكل ما مر علىّ من الناس فى شريط الحياة .. لم يكن يحول جيشانه إلى وجهة أخرى ..

وخشيت فى هذه الوحدة المرة أن أتسلى بالنساء والخمر .. فتنقلب حياتى إلى مأساة ..

وكان حظى العاثر يصاحبنى فى كل جولاتى حتى جاءت هذه الصبية ومن يدرى لعلها من أشد حالات الحظ العاثر ضراوة .. فان التعلق بها مسخرة المساخر ..

***

فى الساعة الثالثة بعد الظهر وأنا آخذ المفتاح من موظفة الجناح .. واتجه فى الطرقة الطويلة إلى غرفتى وجدت الفتاة واقفة على بابى .. كيف عرفته .. لم أكن أدرى ..؟ وكان وجهها موردا والبسمة المشرقة تعلو الشفتين القرمزيتين ..

وجرت نحوى مندفعة إلى صدرى وصاحت :

ـ لم تظهر الأشعة .. أثرا له .. اضغط على صدرى .. لا أثر له .. لا أحس بأى وجع .. أضغط .. أضغط ..

تدفق من فمها كلام كالسيل .. وهى مدفونة فى صدرى .. وأنا شاعر بالخجل ..

وطوقتها بمعطفى فى حنان .. وسحبتها إلى المقاعد الجلدية الزرقاء الموضوعة فى الطرقة أمام أبواب المصاعد .. لم أشأ أن أدخلها غرفتى التى جاءت ووقفت على بابها ..

كانت فرحتها غامرة وجعلتها فى ثورة عاطفية لا ضوابط لها .. ولكنى هدأتها ..

وبعد أن هدأت رحنا إلى المقصف .. وشربنا عصير التفاح ..

***

كانت والدة الفتاة .. وهى الطبيبة .. تتصور أننى أعطيت شيئا عظيما للفتاة أنقذ حياتها .. " الجعران " القطعة الحجرية الصماء هل فعلت بها هذا ..؟

وطمست معالم الورم الخبيث بفعل الايحاء أم بفعل الإرادة .. أم بفعل الحب .. أم بكل هذه الأشياء مجتمعة ..

دعتنى الأسرة مجتمعة الأب والأم والبنت إلى العشاء فى مطعم الفندق ..

ولبيت الدعوة بشرط أن يستجيبوا لدعوتى فى اليوم التالى .. فلا بد أن أحتفل مثلهم بانتصار الفتاة على المرض ..

***

اتفقنا اقتصادا فى النفقات ولأن الفندق لا يحمل الطعام إلى الغرف .. أن نأتى بالطعام وبزجاجات الخمر من مخازن البقالة فى الخارج لنأكل ونشرب على هوانا ..

وأعدت الأم المائدة فى وسط غرفتى .. وجلس الأب والبنت فرحين .. وكنت سعيدا بقدوم الثلاثة وسرورهم .. وقبل أن تفتتح الحفلة بشرب الأنخاب .. تذكر الأب الصورة التذكارية وخرج سريعا ليأتى بالكاميرا من غرفتهم ..

وجلسنا ننتظره .. وأخذت الفتاة تحرك الراديو على محطة موسيقية ..

وسألت الأم وأنا أشير للفتاة المنصرفة عنا :

ـ وحيدة ..؟

ـ أجل .. لم ننجب غيرها ..

ـ أنها ذكية .. وفى ظنى متقدمة فى دراستها ..

ـ أجل إنها فى السنة الثالثة فى الجامعة ..

ـ وتدرس الطب ..؟

ـ لا .. تدرس الاقتصاد والعلوم الانسانية ..

ـ ولماذا لم تدرس الطب كأمها .. حدثتنى الفتاة أنك طبيبة ..

ـ أجل .. أننى طبيبة .. ولكنى شكرت الله لأنها اختارت مهنة أخرى غير مهنة الطب ..

ـ لماذا ..؟

ـ إننا نتعذب ونشقى ..!

وقلت فى نفسى أن كل إنسان يعتقد بأنه يشقى فى مهنته .. هكذا الحياة ..

ورفعت وجهى إليها وقلت :

ـ عشت حياتى أكره المرض .. ولكنى أتمناه فى هذه الساعة بعد أن عرفتك ..

ـ لأكون طبيبتك ..

ـ أجل .. من كل قلبى ..

وضحكت عيناها .. وفى غمرة الانفعال من الاطراء مدت ذراعها الأيسر وشدتنى إليها فى ضمة خفيفة ..

وبقيت أتحدث مع الأم .. وعيناى فى أعماق عينيها وأنا أحس بكل كيانى يرتعش ..

شعرت بشوق لأن أضع رأسى على صدرها .. أنا الذى عشت إلى هذه اللحظة كأن لم يضمنى صدر امرأة ..

كانت طويلة فى مستوى طولى .. وأطول من زوجها الطبيب وأطول من ابنتها .. وجسمها الرشيق بكل ما فيه من جمال وفتنة قد طواه رداء عنابى من قطعة واحدة .. وكان الجورب ورديا خفيفا ارتفع إلى نصف الفخذ .. وأبرز ساقين مخروطتين .. كأنما صنعهما ميكائيل انجلو وهو فى ساعة تجل .. وفى قمة براعته .. ثم قطعت بعدها ذراعه .. ـ كما قطعت يد سنمار ـ حتى لا يصنع بعد هذا الجمال شيئا مثله أبدا .. وعندما خلعت قبعتها الزرقاة .. ومعطفها .. شممت رائحة البنفسج من شعر طويل متموج وفى سواد الأبنوس النقى وبريقه ..

ونظرت إلى يديها وأصابعها الطويلة الدقيقة وأنا من فرط الصفاء أرى الدم يجرى فى الشرايين الصغيرة ..

وجاء الزوج بالكاميرا .. وأخذ لنا أكثر من صورة تذكارية وافتتحنا المائدة وأجلسنا الفتاة فى صدرها ..

وأخذت الأم تملأ الكؤوس .. وقالت :

ـ سنشرب جميعا النبيذ أولا .. نخب الفتاة .. وسيشرب الجنتلمان المصرى وزوجى .. الفودكا والكونياك بعد ذلك ..

ولم أكن أطيق الفودكا ولكن كيف أرفضها من يدها .. وامتد الطعام والشراب إلى ما بعد منتصف الليل .. وأزحنا المائدة جانبا ..

واستراح الزوج الطيب على الكرسى الطويل الوحيد فى الغرفة .. وأخذ يدخن .. وكان هو الوحيد الذى يدخن .. وأخذ ينعس قليلا ثم يصحو ..

ودخلت الفتاة إلى دورة المياة الملحقة بالغرفة ثم خرجت تقول :

ـ الحمام جميل .. يا ماما .. وأجمل من حمامنا ..

ـ حقا .. ولماذا ..؟

وهمست الأم فى أذنى :

ـ إن كل جديد يجذبها ..

وقالت الفتاة :

ـ لونه أزرق .. ويريح الأعصاب ..

ونهضت الأم لترى حتى تؤمن على قول ابنتها بعد المشاهدة .. ووقفت فى وسط الغرفة .. لا أدرى ماذا أصنع ..؟ أأذهب معهما .. إن واجب الضيافة يقتضينى المرافقة .. ولكن ماذا يحدث لو كانت احداهما تريد أن تتزين وحدها أو ...

وقفت مكانى متصلبا .. حتى عادت الفتاة من داخل الحمام وحدها .. وأغلقت الأم الباب وراءها .. وسمعت صوت السيفون ..

وأحسست برعشة ممزوجة بالخجل ..

ووقفت الفتاة بجانبى وأنا أتطلع من باب الشرفة الزجاجى إلى أحد جسور " ليننجراد " وهو يتلألأ بالأنوار الساطعة .. ولم تكن هناك حركة ولا نأمة فى هذا القطاع من المدينة .. وصفت السماء وبدت زرقاء خالية من السحب .. ولم يكن هناك ثلج يتساقط فى الليل ..

ووضعت الفتاة يدها على الزجاج ثم وضعتها على خدى .. وضحكت ..

ـ يدى دافئة ..؟

ـ جدا .. والبرودة فى الخارج ..!

ـ هل أفتح النافذة ..؟

ـ ووالدك النائم ..

وكانت تعبث فى انشراح .. وخرجت أمها فى هذه اللحظة من الحمام فى أجمل زينة .. وشاهدت ابنتها وهى تعبث فابتسمت .. وجلست على الكنبة مستريحة .. فرأيت زاوية من بشرتها بين قميصها وفستانها .. فاحمر وجهى وحولت رأسى ..

ولم أفكر قط فى أن أدنس طيبات هذه الليلة .. على أى وجه من الوجوه ..

كنت أخضع لمجاهل نفسية .. ومشاعر خفية لا أستطيع فهمها .. ولا تقليل أسبابها ..

وفى الساعات الأولى من الصباح أحسست بأننى وحدى ..

وشعرت بمد الحياة فى كل كيانى كانسان حى ..

وشعرت بأنى فى زورق فضى .. يسبح بى فى نهر من العقيق ..

======================

نشرت القصة فى مجلة الثقافة بالعدد 9 فى يونية 1974 وأعيد نشرها فى كتاب " عودة الابن الضال " سنة 1993

=======================

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق